Sunday, March 2, 2008

هل للخالق حق الطاعة علينا!؟


من المسائل المسلم بها عند العدلية من المعتزلة والإمامية ان الإيمان بالله سبحانه إنما ينبع من الدليل العقلي وكذا وجوب طاعته سبحانه عقلي وليس وجوبا شرعيا لاستحالة إثبات الشيء بنفسه فلا بد في إثبات وجوب الطاعة من الاستناد إلى دليل عقلي وإذا لم يثبت استحال إثبات هذا الوجوب فما هو الدليل على وجوب الطاعة لله؟ قبل الجواب يجب ان نعرف معنى الحق والمعنى المقصود في مقام الحديث عن حق الطاعة هو استحقاق العقاب في حال المخالفة وربما يقصد من التعبير بحق الطاعة مجرد استحقاق أخلاقي لا يترتب على المخالفة عقاب:- يستند استحقاق العقاب على أرضية الحق فلا استحقاق ما لم يكن هناك حق والحق مفهوم تعاطاه الناس من وحي تعاملهم مع بعضهم البعض فالحق يعني جزاء عمل أو اجر مقابل مال أو جهد فالحق مال أو عمل يعتبر تعويضا عن النقص الذي لحق بالباذل فالبائع يستحق ثمن بضاعته ليعوض النقص ويسد حاجته والأجير يستحق الأجرة لقاء الجهد الذي قدمه ليسد نقصا ويغطي حاجة للأجير والوالدان يستحقان الرعاية على الولد حال الكبر كما كان يستحقها عليهم فالرعاية تلبي حاجة وتسد نقصا ولو لا هذا النقص وتلك الحاجة لما كان للحق محلا من الإعراب. لعلك تقول بان الحق لا يقتصر على الرعاية بل القوي يستحق الاحترام والتقدير على ولده فتحقق الحق من غير حاجة أو خلل؟ والجواب ان الحاجة لا تنحصر في الرعاية الجسدية والغذائية بل الحاجة تشمل الحال المعنوية فالاحترام والتقدير حاجة معنوية للوالد وبعبارة أخرى الاحترام والتبجيل يضفي على الوالد كمالا كان مفقودا وهكذا يتبين ان الحق لا يقوم إلا على مبدأ الحاجة التي تستند إلى مبدأ التعويض. ومن الواضح ان الحق بهذا المعنى لا يصح بالنسبة للغني المطلق الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه وبالتالي لا يحكم العقل بحق الطاعة له سبحانه. الحق الأخلاقي: وهذا الحق رغم اننا نقيسه على ما عندنا نحن البشر من النقص والحاجة لما يكملنا وان استحسان الفعل الذي يكون جزاءً نسميه بالحق الأخلاقي فمن الصعب جدا إثباته للبارئ سبحانه غير ان هذا المعنى لو ثبت فلا يستتبع بلاءا وجزاءً بالعقاب. وبالتالي ثبت هذا المستوى من الحق أم لم يثبت لا يؤثر على نتيجة البحث الأساسية والتي هي استحقاق العقاب أو لا. نعم ثبوت الحق لواحد ما يستبطن الحاجة لتكميل نقص في الآمر أو تكميل نقص في المأمور على الأقل وهذا لا يتصور بالنسبة لله مع العباد فانه لا نقص فيه لانه الكمال المطلق كما لا يتصور بالنسبة للإنسان ببساطة لان العقاب والعذاب لا كمال فيه بوجه من الوجوه.
ما هو الدليل على وجوب الطاعة للخالق؟ الدليل الأول قالوا: بان الدليل على وجوب طاعة المولى سبحانه هو حكم العقل بوجوب شكر المنعم فكلما انعم شخص وجب على المنعم عليه ان يشكر المنعم وهكذا فالله لما انعم علينا بالخلق وسائر النعم فيجب علينا شكره المتمثل بطاعته. ونقول: بأن حكم العقلاء بوجوب شكر المنعم بالمعنى الأخلاقي مما لا نستطيع إنكاره ولكن يلاحظ عليه أولا: لا ينتج ما راموه من لزوم الطاعة واستحقاق العقوبة بالمخالفة. وثانيا: لا دليل على انه حكم عقلي بل غاية ما هنالك انه حكم عقلائي مستند إلى مكافئة المنعم بما يكمل نقصه. وثالثا: هب أنه حكم عقلي فمورده المنعم من أمثال البشر دون المنعم الكامل الغني المطلق. ورابعا: لا حكم للعقل بوجوب شكر المنعم بمعنى استحقاق العقاب في حال المخالفة بل العكس هو الصحيح حيث ان المن ومعاقبة المنعم عليه بسبب عدم الطاعة قبيح جدا فإذا انعم شخص على آخر وآخذه على عدم طاعته أو حتى عدم شكره فإن ذلك يعد ناسخا للإنعام عليه فيرى العقلاء ان ذلك الإنعام إنما جاء بقصد المقابلة والحصول على الجزاء فالإحسان ما كان مجردا من قصد المكافئة بل معاقبة المحسن عليه بسبب عصيانه يعد قبيحا وهكذا يتبين ان هذا الدليل أوهن من بيت العنكبوت. والشهيد الصدر يبدو انه لم يستسغ هذا الدليل ولكنه رأى دليلا آخر على حق الطاعة واعتمد عليه وهو الدليل الثاني: بأن الدليل على وجوب الطاعة ملكيته سبحانه لعباده فله الأمر والنهي وعلينا الطاعة وإلا استحققنا الويل والثبور وعظائم الأمور. قال الشهيد الصدر: ونحن نؤمن في هذا المسلك بان المولوية الذاتيّة الثابتة للَّه سبحانه وتعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة فكما ان أصل حق الطاعة للمنعم والخالق مدرك أولي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقاً. راجع دروس في علم الأصول ج3, ص28. وفي كتاب بحوث في علم الأصول نقل المؤلف عن الشهيد الصدر: المولوية الذاتيّة الثابتة بلا جعل واعتبار والّذي هو أمر واقعي على حد واقعيات لوح الواقع، وهذه مخصوصة باللّه تعالى بحكم مالكيته لنا الثابتة بملاك خالقيته، وهذا مطلب ندركه بقطع النّظر عن مسألة شكر المنعم الّذي حاول الحكماء أن يخرجوا بها مولوية اللَّه سبحانه ولزوم طاعته، فان ثبوت الحق بملاك المالكية والخالقية شي‏ء وثبوته بملاك شكر المنعم شي‏ء آخر . راجع بحوث في علم الأصول, ج4, ص28. وفي كتاب مباحث الأصول نقلا عن الصدر ايضا: المفروض هو الفراغ عن المولويّة الذّاتيّة للّه تعالى في علم الكلام ثم علق المؤلف في الحاشية قائلا: على أساس وجوب شكر المنعم كما اشتهر على لسان المتكلّمين وهناك أساس آخر له - أيضا - وهو الملكيّة الحقيقية للّه - تعالى - إذ هو خالقنا وموجدنا، إذن فهو مالك لنا بالحقيقة، والأساس الصحيح - فيما أرى - هو الأوّل فحسب . راجع مباحث الأصول ج1, ص223. وحاصل مجموع هذه المقاطع الثلاثة ان حق الطاعة ثابت بادراك العقل وان معاقبة العصاة يجوز ان تنزل عليهم من الخالق لأنه الخالق المالك وهذا الأمر الذي يدركه العقل لا يتوفر برهان لإثباته بل هو من باب إدراك حسن العدل وان العقوبة داخلة في مقولة العدل. ولم يكن الشهيد الصدر الوحيد القائل بهذه الفكرة ولا أول من استند إلى هذا الدليل لكن لعله أول من عمم حق الطاعة للتكاليف غير المعلومة وهو بذلك يبالغ في توسيع حق الطاعة وهذا الرأي لا يؤدي إلى مؤاخذته بل ربما تسبب في زيادة مكانته في نظر العلماء باعتبار انه انجاز علمي مهم(تحقيق) ولكن يا ترى هل سيقابل الرأي المعاكس تماما والمشكك في حق الطاعة بنفس الميزان بالطبع لا بل سيقابل بالسخط وهذه مأساة الحقيقة المظلومة.
المناقشة في الدليل الثاني ان هذا الإدراك المزعوم لحق الطاعة من قبل العقل يجب ان يستقل عقل الإنسان به ولا يقلد أحدا في ذلك لوضوح ان مثل هذه المسألة لا مسرح للتقليد فيها فإذا حكم عقل إنسان بها فهي حجة عليه ولكن من لا يؤمن بذلك وينفي هذا الحق ويدخل العقوبة في خانة المستحيلات فهو بريء الذمة ولا مسؤولية عليه وعلى هذا الأساس فان ما ندركه نحن بعقلنا العملي معاكس تماما لما هو السائد والمعروف فنرى استحالة العقوبة الأخروية ,وحجتنا في ذلك: ملكيته سبحانه لنا ليست على نحو ملكية الملوك فيتصرفون في مماليكهم كيفما يشاءون مغطين نقصهم مستغلين ضعف المملوكين مستندين في ذلك لتشريع أو عرف اجتماعي يقبل هكذا تجاوزات أما ملكيته سبحانه لعباده فرغم كونها ملكية حقيقية إلا انه لا مبرر للعقوبة الأخروية فالتكاليف اما ان ترجع مصالحها للمخلوق واما للخالق فإن كانت راجعة للمخلوق فلا يدفع الضرر بضرر أكبر وهو العقاب والعذاب المهين وإن كانت المصلحة راجعة للخالق استلزم نقصه وحاجته فينتفي كونه غنيا مطلقا سبحانه وتعالى عما يصفون. ولو غضضنا النظر عن ذلك كله فإن استحقاق العقاب بالمخالفة مما لا يحكم به العقل لاشتراط العقل ترتب أثر على العقاب في حين ان العقاب الأخروي لا يعود بفائدة على العبد ولا على خالقه ولا على غيرهما كما أوضح ذلك السيد الروحاني في كتاب منتقى الأصول فقد قال ويا للهول مما قال: والتحقيق: انك عرفت حكم العقل - بمعنى إدراكه - بملائمة الإطاعة للقوة العقلائية ومنافرة المعصية لها....ثم ان هذا التقبيح انما يستتبع الحكم باستحقاق العقاب في المورد الذي يترتب على العقاب فائدة لازمة بنظر العقل، كالتأديب لأجل عدم تكرر العمل من نفس الشخص أو من غيره. اما مع عدم ترتب أي اثر راجح على العقاب، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب لأنه لغو محض، وهو لا يصدر من العقل. والتشفي وان كان منشئا لتحقق العقاب، لكنه ليس منشئا عقلائيا، بل هو يلائم القوة الغضبية للنفس. وعليه: فيشكل القول باستحقاق العبد العقاب على مخالفة التكليف المولوي، إذ المراد بالعقاب هو العقاب الأخروي، وهو مما لا يترتب عليه اثر عملي من كف الشخص نفسه أو كف غيره عن العمل، لانتهاء دور التكليف في الآخرة، والتشفي مستحيل في حقه تعالى، بل في حق كل عاقل كما عرفت، فالالتزام باستحقاق العبد العقاب من الله تعالى، التزام بصدور اللغو منه جل اسمه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.( طالع منتقى الأصول - تقرير بحث الروحاني للحكيم ج 4 ص 26.) انه كلام كبير وفي نفس الوقت مصيب لقلب الحقيقة فعلام الوعيد والنار والخلود؟!
والغريب في الامر ان الروحاني وقع في حيص وبيص فهل يأخذ بالحكم العقلي القطعي ام يأخذ بالدليل النقلي ويتخلى عن العقل فقد قال وما ادراك ما قال: وبما ان النقل دل على ثبوت العقاب فهو ينحصر بأحد طرق ثلاثة. الأول: الالتزام بتجسم الأعمال وانه من لوازمها الذاتية، بمعنى ان نفس المعصية يتجسم بالعقاب، بلحاظ اقتضاء ذاتها لذلك، نظير تكون الشجرة من الحبة. وقد التزم بذلك بعض. الثاني: انه طريق لتكميل النفس وإيصالها إلى المرتبة الكاملة، كما يقال في المرض في دار الدنيا. الثالث: كونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الأخروي، كاختلاف الأشخاص في دار الدنيا في الأحوال، لكونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الدنيوي. ومن الواضح ان العقاب بأحد هذه الوجوه الثلاثة لا دخل لحكم العقل فيه، بل هو يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي، إذ لا طريق للعقل إلى إدراك ما يكون من الأعمال سببا ذاتيا للعقاب، أو إدراك ما هو من طريق كمال النفس، وما هو على طبق المصلحة النوعية، فقد يعاقب المطيع لإكمال نفسه - كما يبتلي المؤمن في دار الدنيا - أو لأجل المصلحة النوعية وكيف يحكم العقل في عالم يجهل شؤونه وخصوصياته. وجملة القول : ان العقاب الثابت بعنوان التأديب - كالعقاب الدنيوي - لا يحكم العقل بثبوته في الآخرة لانه لغو محض، والثابت بعنوان آخر من العناوين الثلاثة لا طريق للعقل إليه ولا يكون من موارد حكم العقل. ومن هنا يظهر: بطلان الالتزام بحكم العقل باستحقاق العقاب ومنجزية القطع، خصوصا ممن يلتزم بان استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام، إذ لا معنى لبناء العقلاء عملا على استحقاق العقاب في الآخرة كما هو واضح جدا. ويقوى الإشكال على من يلتزم بذلك مع تقريبه لكون العقاب من لوازم الأعمال. إذ تجسم الأعمال لا يرتبط بحال ببناء العقلاء عملا ونظرهم، كما هو أوضح من ان يبين. كما ان القول بان مرجع الحكم باستحقاق العقاب ان العقاب لو وقع لكان في محله، غير صحيح، إذ بعد ان كان العقاب بأحد الطرق الثلاثة التي لا دخل للعقل في إدراك مواردها، فكيف يحكم ان العقاب في هذا المورد في محله ؟ إذ كيف يدرك تجسم العمل في هذا الموضوع أو احتياج هذا الشخص للكمال النفسي أو ان عقابه يلاءم المصلحة النوعية للنظام الأخروي ؟ ! . . فتدبر. انتهى كلامه. أقول: كلامه رغم دقته وإصابته للحقيقة إلى حد كبير الا ان لنا بعض الملاحظات عليه:- أولا: إذا كان العقاب الأخروي لغوا مستحيلا على الله كما يقرره استدلاله حيث نص: (فالالتزام باستحقاق العبد العقاب من الله تعالى، التزام بصدور اللغو منه جل اسمه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.) فهذا يتعارض بنحو التكاذب مع الأدلة النقلية التي أشار لها وادعى ثبوت العقوبة الأخروية بها والقاعدة الثابتة في بحث التعارض تقول انه إذا تعارض دليلان احدهما عقلي والآخر نقلي قدم العقلي على النقلي إذا كان العقلي قطعيا كما هو الحال في المقام فليس متاحا تقديم النقلي على العقلي. ثانيا: دعوى ثبوت العقاب بالأدلة النقلية فيها نظر وذلك لان الآيات والروايات المهددة بالنار والعقاب لا تعدو دائرة الوعيد والذي لا يحكم العقل بوجوب الوفاء به كما قرر في علم الكلام وعليه فلا معارضة أساسا بين حكم العقل ووعيد النقل. آيات العقاب والخلود في النار وألوان الوعيد ويتصور بعض الباحثين بأن العقاب في الآخرة ما هو الا وجه آخر للمعصية فالزنا له صورة جميلة في هذه الدنيا وقبيحة في الآخرة غير ان انكشاف الوجه القبيح يتأخر إلى يوم يبعثون وحينها تنكشف الحجب وهذا ما يعبر عنه بتجسم الأعمال فلنستمع لأحد شراح هذه الأطروحة والمؤمنين بها إذ يقول: ما هو المصحح لعقوبة العبد ؟ لقد تضافرت النصوص السماوية على عقوبة المجرمين والتنكيل بالظالمين وعندئذ يقع الكلام في مقامين: الأول: ما هو الغرض من العقوبة ؟ فهل هو التشفي كما في قوله سبحانه: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) ؟ ولكن هذه الغاية منتفية في جانب الحق سبحانه لأنه أجل من أن يكون له هذا الداعي لاستلزامه طروء الانفعال إلى ذاته. أو لاعتبار الآخرين ؟ وهذا إنما يصح في دار التكليف لا في دار الجزاء. يقول سبحانه :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ). فقوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قرينة على أن الغاية من جلد الزانية والزاني هو اعتبار الآخرين، أو أنه إحدى الغايات الثاني: إن من السنن العقلية المقررة مساواة العقوبة للجرم كما وكيفا، غير أن هذه المعادلة منتفية من العقوبات الأخروية، فإن قسما من المجرمين يخلدون في النار مع أن معصيتهم أقل مدة من مدة التعذيب. قال سبحانه:( وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). وقال سبحانه:( وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ). قال المفيد: " إتفقت الإمامية أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة " . وقال الصدوق في عقائده: " اعتقادنا في النار أنه لا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك، فأما المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة التي تدركهم " . وأما الجواب: عن السؤال الأول، فنقول: إن السؤال عن غاية العقوبة، وإنها هل هي للتشفي أو لإيجاد الاعتبار في غير المعاقب إنما يتوجه على العقوبات التي تترتب على العمل عن طريق التقنين والتشريع، فللتعذيب في ذلك المجال إحدى الغايتين: التشفي أو الاعتبار. وأما إذا كانت العقوبة أثرا وضعيا للعمل بالوجهين الآتيين، فالسؤال ساقط، لأن هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجوده في الحياة الأخروية، فعند ذلك لا يصح أن يسأل عن أن التعذيب لماذا، وإنما يتجه السؤال مع إمكان التفكيك، والوضع والرفع، كالعقوبات الاتفاقية. ثم إن الملازمة الخارجية بين الإنسان والعقوبة تتصور على وجهين: الأول: إن كلا من الأعمال الإجرامية أو الصالحة التي تصدر من الإنسان في عالم الطبيعة توجد في النفس ملكة مناسبة لها، بسبب تكرار العمل وممارسته. وهذه الملكات النفسانية ليست شيئا مفصولا عن وجود الإنسان، بل تشكل حاق وجوده وصميم ذاته. فالإنسان الصالح والطالح إنما يحشران بهذه الملكات التي اكتسباها في الحياة الدنيوية عن طريق الطاعة والمعصية، ولكل ملكة أثر خاص يلازمها. وإن شئت قلت: إن كل نفس مع أم اكتنفها من الملكات تكون خلافة للصور التي تناسبها، إما الجنة والروح والريحان، أو النار ولهيبها وعذابها. فعلى ذلك يكون الثواب والعقاب مخلوقين للنفس قائمين بها على نحو لا يتمكن من ترك الإيجاد. وهذا كالإنسان الصالح الذي ترسخت فيه الملكات الصالحة في هذه الدنيا، فإنه لا يزال يتفكر في الأمور الصالحة، ولا تستقر نفسه ولا تهدأ إلا بالتفكر فيها، وفي مقابله الإنسان الطالح الذي ترسخت فيه الملكات الخبيثة عن طريق الأعمال الشيطانية في الحياة الدنيوية فلا يزال يتفكر في الأمور الشريرة والرديئة، ولو أراد إبعاد نفسه عن التفكر فيما يناسب ملكتها لم يقدر على ذلك. ويظهر من العلامة ( الطباطبائي ) أن الثواب والعقاب الأخرويين من الحقائق التي يكتسبها الإنسان بأعماله الصحيحة والفاسدة، وهما موجودان في هذه النشأة غير أن الأحجبة تحجز بينه وبين ما أعد لنفسه من الجنة والنار، قال: " إن ظاهر الآيات أن للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية، ذات أصول وأعراق، يعيش بها فيها وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الأسباب وارتفاع الحجب ". إلى أن قال: " إن الأعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليها الإنسان يوم يكشف عن ساق " ( ) . وهذا الكلام بطوله يتضمن نقطتين مهمتين الأولى: ان تنفيذ العقوبة يجب ان تكون له حكمة ولا يجوز ان يصدر عبثا بلا غاية وهدف. والنقطة الثانية: ان العقوبة ليست سوى أثر للفعل وليس هناك عقوبة بالنحو التشريعي حسب تعبيره. اما النقطة الأولى فهي صحية ولا غبار عليها. واما النقطة الثانية فلنا ان نناقش فيها أولا بما ذكره الروحاني فيما تقدم نقله من ان العقل لا يدرك هذه الدعوى ولا يستطيع فهم عالم لم يطلع عليه.وثانيا: هذا التأويل يذكر لمعالجة التعارض بين الدليل العقلي النافي لحكمة العقوبة الأخروية من جهة وبين الدليل النقلي من جهة أخرى لكن هذا التأويل لا معين له في مقابل حمل أصل الوعيد على الرغبة في تقويم السلوك من غير ضرورة لتنفيذه. وثالثا: لا يتم هذا التأويل في نفسه وذلك لان الله هو من خلق السببية للفعل وجعل له وجهين احدهما قبيح والآخر حسن حسب الفرض فيعود السؤال مجددا ما هي الحكمة في خلق الأفعال على هذا النحو وما هو الداعي في إيجاد هكذا سببية أهي الرغبة في الإيقاع في الشبك كما يوقع الصائد صيده يضع له ما ظاهره حلو ليوقع به فيقتله ليتلذذ هو بطعمه أو بثمنه؟!. تعالى الله عما يصفون وجل وعلا عن تخرصات الجاهلين بكرمك ورحمتك التي وسعت كل شيء.
اذا تبين انتفاء حق الطاعة عقلا واستحالة انزال العقوبة فمن وجهة نظر اسلامية كيف نوفق بين آيات التهديد بالنار وهذا الحكم العقلي القطعي النافي لاستحقاق العقاب الجواب يصح ان نقول: ظاهر قسم من آيات العقاب مجرد الوعيد وظاهر قسم آخر من الآيات الإخبار عن النار والعذاب غير انه يتعين حملها على مجرد الوعيد بسبب معارضة هذا الظاهر للدليل العقلي الذي يقرر استحالة تنفيذ العقاب الأخروي. ويؤيد ذلك أمور:- الأول تأويل كثير من العلماء - بل ربما هذا هو السائد بين علماء الإسلام – آيات الإخبار بالنار والخلود فيها بالنسبة للمذنبين من المؤمنين بأنها مجرد وعيد لا ينفذ وان الله لا يخلد في النار موحد أو مؤمن فإذا جاز التأويل وطرح ظاهر هذه الطائفة من الآيات والروايات وإذا جاز الالتزام بان الله لا ينفذ وعيده بالخلود فليكن عدم تنفيذ الوعيد بشكل نهائي يأخذ نفس الحكم ببركة الدليل العقلي المانع من تنفيذ العقوبة. واليك بعض مما قالوه: قال الشيخ الصدوق: إعتقادنا في الوعد والوعيد: أن من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه، ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار، إن عذبه فبعدله، وإن عفى عنه فبفضله، " وما ربك بظلام للعبيد - فصلت : 46 " . وقال عز وجل: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - النساء : 48 و 116 " والله أعلم .[الاعتقادات في دين الإمامية - الشيخ الصدوق ص 45.] وقال الشيخ المفيد: واتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أن الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة. واتفقت الإمامية على أن من عذب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم فيها على الدوام، ووافقهم على ذلك من عددناه. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أنه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب. "أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 47. ". وقال القاضي الجرجاني في شرح المواقف: ( العقاب عدل من الله لأن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه كما يشاء وله العفو عنه لأنه فضل ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا بل يمدح به عند العقلاء ) شرح المواقف - القاضى الجرجانى ص 307. وقال في موضع آخر: قوله ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا ) على ما دل عليه قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف ايعادي ومنجز موعدي إلى ان قال: الوعيد مصروف إلى الأخبار عن استحقاق العقاب لا عن وقوعه حتى يلزم الخلف بالعفو وقد يقال الوعد ليس بإخبار عن وقوع الموعود في المستقبل بل إنشاء عزم على إيقاعه وكذا الايعاد فلا كذب في الإخلاف في شيء منهما " شرح المواقف - القاضى الجرجانى ص 307.". الثاني: ما يظهر من الآية التالية من ان الهدف من الوعيد مجرد الزجر واجتناب المخالفة وليس وراء التهديد والوعيد هدف آخر أي انه لن ينفذ والآية هي: ( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) لعلك تقول بان الإفصاح عن ان الهدف هو التقوى أو التذكر والاعتبار لا ينفي تنفيذ العقوبة وخلو الوعيد من التنفيذ نهائيا. والجواب ان ظاهر الآية ان لا هدف زائد على ما ذكر وفي المقابل لم نجد ما يدل على ان الوعيد سينفذ بل العكس هو الصحيح. الثالث: قوله تعالى:- ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) فتعليق إنزال العقوبة على المشيئة وإعطاء الرجاء بالتوبة والغفران والرحمة يؤكد ان لا تنفيذ للعقوبة. وليس هذا مقتصرا على المنافقين بل الحال نفسه بالنسبة للكافرين كما ينص عليه قوله تعالى:- (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ 127 لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) الرابع: الاية القرآنية: ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا {الإسراء/59}
الخامس: ما ورد في الدعاء ( يا من إذا وعد وفا وإذا توعد عفا ) ( تهذيب الأحكام, الطوسي ج3, ص91.) وهذا يعني ان شأن البارئ سبحانه انه إذا توعد عفا فلا ينفذ وعيده مما يعني انه كالقانون الإلهي. وان سألت لماذا لا نجد نصوصا واضحة في ما تدعونه أجبنا بان ذلك يتنافى مع الغرض من الوعيد فلو أوضحت النصوص هذه الحقيقة لما اعتبر أحد فمقتضى الحكمة ان لا يتم توضيح هذا المطلب حتى يتم الالتزام بالحلال والحرام. إن سألت إذا كان هذا مقتضى الحكمة وفعالية الوعيد فهل من الحكمة ان تكشف هذا الستر والجواب ان الوعيد لو كان صادرا مني لكان للإشكال وجه اما وهو صادر من الرحيم الكريم فيحسن ان نشرح كرمه والجانب الايجابي لما فيه خير وصلاح الناس خصوصا ونحن نعيش في زمن يغلب فيه حكم القانون الذي لا يجرؤ الناس على مخالفته ولو فعلوا أخذوا جزائهم وبذلك انتظمت دول ومجتمعات فلنقدم الوجه الجميل للدين ما أمكننا ذلك.
من رباعيات عمر الخيام
92
يا رب انك ذو لطف وذو كرم
ففيم لا يدخلن المذنب الخلدا
ما الجود اعطاء دار الخلد متقيا
ان العطاء لاصحاب العقول ندى
----------------
83
ليس لذا العالم ابتداء يبدو
ولا غاية وحدّ
ولم اجد من يقول حقا
من اين جئنا وأين نغدو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسام الخيام

3 Comments:

Blogger Hayat said...

مرحبا ..

الموضوع جميل .. و يخاطب العقل الآخر بمنطقيه و مسايره دينيه علميه ..

في موضوع سابق لي ..
ارادة الرب ..
http://hayatblog.blogspot.com/2008/02/blog-post_08.html

تطرقت بشكل مختصر عن الالهه .. و من بينهم اله الديانات السماويه .. و بينت بإن الانسان هو من خلق الخالق اي بإنه هو من خلق الالهه و نسب لها كل الصفات و المعتقدات و من بين تلك الامور.. طاعته و ارتباط هذه الطاعه بالخير و الشر و العقاب و الجزاء ..
نعم هنالك خالق .. و لكن لا يمكن ان نثبت بشكل علمي كل ما ينسب إلى هذا الخالق ..

و كما قال احد الاخوه في الموضوع :

الرب تجسد ماديا من خلال مخلوقاته ، قبل أن يكون هناك خلق ... لم يكن هناك رب ، لأنه لم يكن هناك من يؤمن بخليقة ، لهذا جسد الرب ذاته ماديا من خلال المخلوقات


تحياتي

March 2, 2008 at 6:42 PM  
Blogger rai said...

تسجيل متابعة للمدونة
وبداية موفقة

March 2, 2008 at 10:18 PM  
Blogger Bassam said...

حياة
شكرا لمرورك واهتمامك هذا احد المواضيع القديمة التي نشرتها في بعض المنتديات وهي تعبر عن نقاش فكري بنفس الآلية المتبعة عند المؤمنين بالدين وحقانيته
cheb_ali
شكرا لمرورك واهتمامك اطلعت بشكل سريع على مدونتك فريتها نافعة وامل ان استفيد منها واعلق على بعض مواضيعها لاحقا شكرا مجددا لكما

March 3, 2008 at 6:53 AM  

Post a Comment

Subscribe to Post Comments [Atom]

<< Home